لا يحبذ الكثير من شيوخ الكار استخدام مصطلح «قتلتها الحرب» ويفضلون استخدام كلمات أقل قسوة «كاحتضار، نزيف».. لكن هل يغير المصطلح المستخدم شيئاً من واقع حال الحرف السورية؟!
هناك حرف ماتت نهائياً كحرفة الزجاج المعشق الفينيقي، الذي سجلته تركيا ضمن قيودها ومنتجاتها بعدما سرقته. في المقابل هناك من سهلت عليه حال اليأس التي وصل إليها لتسمية الأشياء بمسمياتها، فلا يرى رئيس اتحاد حرفيي دمشق مروان دباس كلمة تعبر عن الواقع أكثر من قتلتها الحرب، بينما يقول المسؤول الثقافي في الجمعية الحرفية للمنتجات الشرقية وشيخ كار مهنة الفسيفساء والنحت خلدون المسوتي: إنها في حالة نزيف.
بغض النظر عن التسميات، نستطيع القول: إن كل علامات الموت السريري أصيبت بها أغلبية الحرف التي تميز سورية وخاصة الحرف التي تصنع منتجات الرفاهية والتي كانت الأكثر تضرراً منذ بداية الأزمة كصناعة السيوف والموزاييك والفسيفساء…، لأن حاجتها غير يومية وملحة كالطعام، وبتأثر يتحدث حرفيون عن شيوخ كار يعملون بمهن لا تليق بخبراتهم كي يؤمنوا حاجيات أسرهم. IMG_0767
كل الظروف المطلوبة لعمل أغلب الحرف غير متوافرة، والنتيجة أنه من بين 260 حرفياً وشيخ كار في دمشق وريفها هناك فقط 70 فاعلون، فحركة السياحة شبه معدومة، والتصدير انخفض بنسبة 99% كما يؤكد المسوتي، الأمر الذي تسبب بهجرة أغلبية أصحاب الأيدي الماهرة الخبيرة، فمن أصل 30 – 40 حرفياً عند المسوتي بقي اثنان فقط، يعملان عند الطلب، أما شيخ شيوخ الكار فؤاد عربش فلم يبق عنده أحد من أصل خمسة عشر حرفياً لصناعة الموزاييك.
يضيف خلدون المسوتي: ان نسبة من هاجر من حرفيين وشيوخ الكار تتجاوز 70%، فمن أصل 30 شخصاً ممن يلقبون بشيوخ الكار لم يبق سوى 20 فقط، وأن دولاً كتركيا ومصر ولبنان والكثير من دول أوروبا انتعشت أعمالهم بحرفيي سورية وخاصة المختصين منهم بتصليح السيارات، والصحية، «والستلايت».. الخ.
يقول عربش: إن أسباب قلة أعداد شيوخ الكار تعود لعدة أسباب إضافة للظروف التي تمر فيها البلاد، وجودهم في الأماكن العشوائية أو التي دمرت، وكذلك قلة التعليم والتأهيل لهذه الحرف، وسيطرة التجار على الأسواق.
رئيس جمعية حرفيي دمشق مروان دباس يرتب الحرف الأكثر تضرراً من وجهة نظره ويؤكد أن الكثير من الحرفيين ترك مهنته وغادر، ويعتقد أن في قائمة الحرف التي يمكن وصف حالتها بالاحتضار هي حرفة النجارة، فعدد الذين كانوا يعملون بهذه المهنة أكثر من 2500 حرفي في دمشق وريفها، وصلت منتجاتهم لأغلبية دول العالم، لكن الآن هذه المهنة توقفت بنسبة 95%، ويرى أن وجود هذه الحرفة في مناطق ساخنة كداريا والسبينة وعربين، كان المسبب الأكبر في التأثير عليها، يضاف لذلك خسائر الحرفيين معدات صناعاتهم وافتقادهم أماكن بديلة تمكنهم من الاستمرار.
يضيف دباس أن الحرفة الثانية التي تعرضت للأذى هي صناعة الألمنيوم، فقد كان عدد العاملين في هذه المهنة أكثر من 450 حرفياً في دمشق، ولكنه يعتقد أنه لم يبق أي منهم بعد هجرة أغلبهم فهذا المنتج يعتمد تسويقه على حركة البناء، وفي سورية تستعر الحرب للعام السادس على التوالي، وتالياً ما زال الدمار مستمراً وليس هناك من بناء… يرتبط بعمل هذه الحرفة، حرفة صناعة الزجاج .
(مرايا- بلور)، وتعاني المشاكل ذاتها حرفة تصنيع البلاط والرخام، وهنا يظهر الإبداع الحقيقي للحرفي السوري- كما يقول دباس- في التفنن بالنحت على قطعة الحجر، فالمنتج السوري من هذا النوع غير موجود في كل العالم، حيث تجد سجادة مرسومة بالحجر كتحفة فنية، تضم مئات آلاف القطع الحجرية.
أما حرفة صيانة السيارات فيرى دباس أن الدول التي تصنع السيارات لا تجيد صيانتها كما الحرفي السوري الذي يفهم بكل التخصصات، وهؤلاء تم استقطاب أكثرهم من قبل الدول المجاورة ودول أوروبا أيضاً، فمن أصل 1200 حرفي في دمشق بقيت أعداد محدودة جداً، وإذا كان هناك من شيخ كار لم يغادر فلم يعد يجد حرفيين صغاراً في العمر لينفذوا تعليماته.يصفها دباس بالذهب من حيث حجم الإيرادات التي كانت تدرها على الدولة بالعملة الصعبة، وهي مهنة الدباغة، فهي من جهة تساهم في التخلص من أضرار جلود الحيوانات، ومن جهة ثانية تساهم بإيرادات كبيرة بعد التصنيع والتصدير، ولكن هذه الحرفة تضررت قبل الحرب- كما يضيف دباس بسبب نقلها من أماكنها في الزبلطاني حيث يتوافر الماء إلى عدرا، ثم جاءت الحرب لتقضي عليها نهائياً، فمن أصل 150 محل دباغة بقي 40 مهددين بالتوقف نهائياً، بسبب شروط العمل الصعبة، وخاصة ارتفاع تكاليف تأمين المياه التي تعد عنصراً أساسياً لهذه المهنة، ويضيف دباس أن سورية كانت تصدر الجلود بينما الآن تستوردها.
رئيسة اتحاد حرفيي ريف دمشق رائدة بيطار أكدت أن هناك خطة عمل تقوم على استقطاب شيوخ الكار للحفاظ على المهن، كمهنة الموزاييك والصدف والخزف والرسم على الزجاج ….الخ، وترى أن المشكلة الأكبر تواجه الحرف التي تتعلق منتجاتها باستخدامات الرفاهية أوغير الأساسية، والدليل استمرار عمل جمعيات الخبازين، ففي الريف أكثر من 102 مخبز خاص للحرفيين.
وأضافت بيطار أن عدد جمعيات ريف دمشق 31 جمعية، وأن عدد أعضائها نحو 23.9 ألف عضو هيئة عامة، وهذا العدد كان قبل الحرب، حيث لم يجر فصل أي منهم، وهناك أكثر من 100 ألف شخص خارج قيود التنظيم، وترى ضرورة التأكيد على أهمية إصدار مرسوم يلزم الحرفيين بالانتساب للاتحاد كضرورة تنظيمية وهذا رأي قد لا يوافقها عليه الكثير من الحرفيين.
يوثق اتحاد ريف دمشق 10 حرف ذات طابع تقليدي، كحرفة التطريز على الألبسة، التي كان يعمل فيها نحو 50 حرفياً ومركزها الأساس في دوما، وأعتقد أن مكان وجودها يكفي لمعرفة مصيرها. وهناك حرف النول اليدوي لصنع البسط والسجاد.
رئيس وحدة الصناعات الريفية للسجاد اليدوي في الرحيبة وشيخ كار «السجاد اليدوي» عمار سمور كما يلقبونه، يقول: إن الحرب تقتل المهني أولاً ما يؤدي لقتل المهنة، وفي حديثه عن حرفة السجاد اليدوي التي يصفها بالموغلة في القدم والتاريخ، يؤكد أنها وصلت خلال الحرب إلى مرحلة الاحتضار، فخلال الأزمة التي تمر فيها سورية تأثرت صناعة السجاد اليدوي بشكل وصلت فيه إلى مرحلة الاحتضار، لكن كان هناك عمل مستمر لوزارة الشؤون الاجتماعية لإنعاش هذه الصناعة، وكانت الفكرة بوحدات الصناعات الريفية للسجاد اليدوي، ويعتقد سمور جازماً أن خطة العمل نجحت في إعادة الحياة لهذه الحرفة، وذلك من خلال إقامة اتفاقية مشتركة بين وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومنظمة الهلال الأحمر العربي السوري ضمن مشروع تحسين سبل العيش وذلك من خلال إقامة دورات تدريبية على هذه الحرفة وقد نجحت التجربة وتم تعليم 30 سيدة في مشغل وحدة الصناعات الريفية في معضمية القلمون، ومشغل شعبة القطيفة للهلال الأحمر لنحو 30 سيدة أيضاً يخضعن للتدريب، يضيف سمور: «أستطيع القول بكل ثقة إن حرفة السجاد اليدوي في هذه الظروف تنهض من تحت ركام الحرب ، وتقوم كطائر الفينيق لتقاوم الحرب بإرادة الحياة فهي مهنة شرقية بامتياز تعلم السيدات»، فقد تم تعليم 60 سيدة وهي الطاقة الاستيعابية للأمكنة، علماً أن أعداد الراغبات المسجلات للتعلم أضعاف الطاقة الاستيعابية.
شيخ شيوخ الكار لكل الحرف كما يلقبونه فؤاد عربش يعد أن واقع الصناعات الحرفية يعني خلاصة واحدة: «نكون أو لا نكون» ويرى أن المطلوب للحفاظ على من تبقى منها في الدرجة الأولى إيجاد أماكن «حواضن» من الأماكن المتوافرة لدى الدولة في المقابل هم على استعداد لتقديم ما يخدم الوطن اقتصادياً وثقافياً، أما الأمر الآخر فهو منحهم الشعور بالأمان وعدم تعرضهم للاستغلال والمتاجرة من قبل المتسلقين والمستغلين لظروفهم وعملهم، فقد جاءهم الكثير ممن يتحدثون عن حل مشاكلهم ومساعدتهم ولكن في النهاية لم يحصلوا على شيء، لذا يصفهم المسوتي بالمتسلقين المتنفعين على ظهر مهنتهم.
يضيف المسوتي أيضاً أن مساعدتهم على فتح أسواق خارجية وتسهيل شروط المشاركة في المعارض من العوامل المساعدة لعمل من بقي، كإعادة النظر في القانون الذي يمنعهم من إعادة السلع التي شاركوا فيها في المعارض الخارجية إلى البلد، الأمر الذي يضطرهم لاصطحاب السلع الأقل جودة، ومن ثم بيعها بأسعار بخسة جداً.
يقول سمور: إن هناك ضرورة للاستمرار بالتفكير الجدي للحفاظ والدفاع عن مهنة السجاد اليدوي، وغيرها لأن الحرف اليدوية ذاكرة أمة وتاريخ شعب ارتحل واستقر وحارب وعكس تاريخه في أعماله اليدوية، وإن التهاون أو ضياع أو خسارة حرفة من الحرف هي خسارة لجزء من تاريخ شعب، لذا يمكن القول: إن تفعيل الحرف والمحافظة عليها وإنعاشها مسؤولية الجميع، خاصة أن 80% من الحرفيين يعودون إلى بلادهم حالما تسمح لهم الظروف بذلك، كما يعتقد دباس.
"تشرين"