لا ضوء فيه إلا أحداق الذئاب....

2019-08-18 11:34:51


"حيث لا ضوء إلا أحداق الذئاب"، هو عنوان الديوان الشعري الجديد للشاعر السوري الدكتور أحمد حافظ، عن دار التكوين في دمشق. في هذا الديوان وكما كتب عنه النقاد، يحتفي الكاتب بأشخاص وشعراء وأمكنة ومقاهٍ وينابيع ومدن، أمكنة زارها الشاعر، وأخرى حضرت في الوعي؛ بسبب المآسي التي حدثت فيها، وهو في كل هذه النصوص يجمع بين الشعر والنثر، في لغة محلقة تنقض انقضاض النسر من أعالي المخيلة، حسب الكاتب والمترجم أسامة أسبر.
 
تمهيداً لأيّ مشهدٍ ، مواكبةً لأي خُطىً، تواصَلَ منذ
الغروب حتى السَحَر زعيقُ العجلات على الإسفلت،
رنينُ الأقفال في الأقبية ، وخبطُ الأجنحةِ على الشبابيك؟
أمامَ منْ كانتِ الريحُ تتلو همهماتِ المُلقّنِ العجوز ،
خلفَ منْ كانت تُنشدُ دور الجوقةِ النائحة؟
بعدَ أيّة صرخةٍ تراشقت البروق بالسهام ، ولأيّةِ انحناءةٍ
زخّت تصفيقات الرعود؟
على أيّ ختامٍ – حين تناهت من البعيد أبواق بنات آوى –
أغمضتِ الأعالي وأُسدِلت ستائرُ المطر ؟  
في ديانه الجديد تظهر قدرة الكاتب "في استنهاض مفردات اللغة الرخيمة مقدماً رغبته المكنونة في قلب الجمل التاريخية على صاحبها ورسم صورٍ جديدة يقتبسها من بيئة نهر الخابور في الجزيرة السورية العليا".
للموج فوقنا.. قفزاتُ أشباحٍ
تمتمات ساجدين.. وترنحات سكارى
الرذاذ حولنا.. عناقيد تنفرط.. شهبٌ تتناسل.. ثعابين تتلوى..
نعوم حتى مطلع الفجر..
في البرزخ المتموج بين دفء النبع وبرودة المصب.

المتأمل في نصوص الشاعر أحمد حافظ، يصل إلى نتيجة واضحة، حسب الكاتب أسامة أسبر، وهي أنه ينعي الأمل ويرثي الضوء، ولكنه في استجلائه للظلمات المتراكمة على الواقع، للاستبداد المشتق من الأبد، ولكل ما يتربص ويكمن، يقودنا إلى ضوء خاص، هو الضوء الذي ينير لنا بعد أن نفهم المشهد، الضوء الذي يقول لنا إن تعميق اليأس بوابة أخرى للأمل.

 "لا ضوء إلّا أحداق الذئاب"، هو أدق – عنوان لما يحمله الشاعر منذ عقود بيمينه العنيد، الذي كادت تهشمه الأقدار ذات مرّة وذلك حسبما وصفه الكاتب والناقد حسين سرمك حسن. يمين شخصي عنيد يضم كتاب الأمل بقوّة، ويتسلح بروح مقاوم صلب ينفخ مستميتا في جمرة أمل يحنو عليها ويتدفأ بها.. أمل خبا أو يخبو أو يُطمر برماد اليأس اسمه: الأمة والأخوّة والوطن الكبير والحق والعدالة والسلام، ؟؟ بحثاً عن حجر مقدّس اسمه "أسماء فلسطين الحسنى":

لعلّك تستغرب هذه الرعشة التي تسري في أوصالك حين تسمع صرخة فيروز: "تقفون كشجر الزيتون".
اذهب، إذن، إلى غزة. زرْ بيت السمّولي. ستجد فيه شجرة زيتون عمرها مئة عام، استشهد على ترابها، ذات مجزرة، تسعة وعشرون فرداً من العائلة، صارت جذورها أعمدة دامية، وثمارها قناديل ضوء أسود...


وبين قناديل الضوء الأسود وأحداق الذئاب التي تلصف متحفّزة في الظلمة البهيمية العميقة ، لم تبق في لغة الروح الممزقة سوى الـ "لو" يفتتح بها الشاعر الجريح السورة الأولى من كتابه:
(لو كنتُ نوحاً،

لمنعتُ الضباعَ من ركوبِ السفينة –

(لو كنتُ غُراباً ، لدفنتُ قابيل)

ودائماً لا يحقق الشعر العظيم فعله الجذري العميق في النفس البشرية، إلّا حينما ينتقل من دائرة الخاص إلى دائرة العام، بحيث يجعل الشاعر انثكاله همّاً عربيّاً وعالمياً لأي إنسان تفتك به مخالب العدوان والطغيان بلا رحمة ومن دون رادع؛ تُستباح حياته وتُقطّع آماله بعيداً حتى عن "تقاليد" الجريمة القابيلية الأولى حيث الشاهد المُربّي: الغراب. وقد حقّق أحمد حافظ هذا الهدف كاملاً محتفظاً بجماليات الحداثة الشعرية وأسرارها. وكنتُ ومازلتُ اقول أن عظمة ايّ نصّ شعري عربي تكتسب واحداً من أهم علاماتها حين يكون قادراً على تقطيع قلب المتلقي "العراقي". رجفة قلب المتلقي العراقي وهو يقرأ النص شرط حاسم بالنسبة لي كناقد عراقي. فلا توجد قوّة شعريّة في الكون قادرة الآن على تحريك هذا القلب الذي أماتته الفاجعات والنوائب لإنسان خلقه الله أصلاً وهو يبكي. وقد قطّع أحمد حافظ قلبي كقارىء يشترك معه في واقعة شقيق مغدور..

ويتسع تأثير النص ودائما حسب الكاتب "سرمك" من المحلّية إلى العالمية حين يدخل ساحة المحنة البشرية التي لا تُحل .. المحنة الأعظم والأكبر والأعقد والتي بلا حل .. ساحة الموت، الحيّ الذي لا يموت. الموت هو المشترك الكوني الوحيد بيننا كبشر.. والماساة الفظيعة – ويا للغرابة - هي أن شؤون الحياة تفرّقنا! ألا يستوي في حضرة الموت الأمير والفقير؟! هكذا تساءل جدّنا جلجامش قبل خمسة آلاف سنة. ولكي يُصبح النص محلّيا وعالمياً ضارياً لابدّ أن يوغل في محليّته عميقاً عميقاً.. هذا الإيغال الملتهب يوصل النموذج:
الشقيق أيسر في القصيدة، الذي قُتل عمداً في ليلة شتائية، هو مهماز الإحساس بالإنثكال والأسى الساحق، وعار أحاسيس الفرجة في الكواليس الخلفية لأي قارىء في مشارق الأرض ومغاربها، وفي شمائلها وجنائبها. لكن النصّ يفلت من مصيدة الرثاء التقليدي إلى سويداء قلب الإنسانية المكلوم حين يحمل رؤيا (لماذا أكتب الشعر؟) ، مع الرؤية (كيف أكتب الشعر؟).

(عِصِيٌّ أطولُ من التاريخ ، أغلظُ من اللعتات
أمضى من الصواعق
يهشُّ بها الرعاةُ على القطيع المتموّج
من دفقة الصلصال حتى نفير الصُور :
للسارحين في مروج الــ (نعم) ، الخاشعين لشبّابات
اليقين ، الطافحة ضروعهم حمداً ورضا، فسحاتٌ
يصرّفونها كيقما شاءوا: ثغاءً، قفزاً، اجتراراً ، سفاداً،
تناطحاً ... كلٌّ ومطالهُ ضمن الطابور القويم المؤدّي صباحاً....

إعداد:  هدى مطر

 

 

 

 

#شارك